الواحة

"القلب يعشق كل جميل" فى شارع قصر النيل

شارع قصر النيل، أشهر شوارع قلب العاصمة، ويكاد يكون الشارع الوحيد الذي لم يتغير اسمه رغم مرور عوامل الزمن عليه، تبدأ حكايته منذ أن كان ثكنات عسكرية للجيش، ثُم تحول إلى نزهة لـ «أولاد الأكابر». يبدأُ الشارع من ميدانِ التحرير" الإسماعيلية سابقاً " مروراً بميدان طلعت حرب "سليمان باشا سابقًا"، ثم ميدانِ مصطفى كامل "سوارس سابقًا"، وينتهِي بميدان الأوبرا "إبراهيم باشا سابقًا".
محمد علي باشا هو أول من عمّر منطقة قصر النيل، بل كان هو وراء إطلاق هذا الإسم، وذلك عندما استحضر «المعلمين من الروم»، لإدخال المباني الرومية في الديار المصرية. وكما أنشأوا لهُ سرايا القلعة «قصر الجوهرة» وسرايا شبرا، انشأوا لإبنتهُ زينب هانم سرايا الأزبكية ثُم بنوا لإبنتهُ نازلي هانم سرايا على ساحل النيل، أى أن اسم المنطقة جاءَ من «قصر النيل» الذي بناه محمد علي لإبنته نازلي هانم. وكجُزء من اهتمام، سعيد باشا، رابع ولاة مصر من الأسرة العلوية بالجيش والبحرية، وكمّا أنشأ قلعة عسكرية في القناطر الخيرية، أنشأ ثكنات للجيش المصري في منطقة قصر النيل. وكانت هذه بداية أكبر حركة تعمير في هذه المنطقة، مما لفتَ الإنتباه إلى المنطقة الواقعة غرب القاهرة. وهي الأساس الذي تحركَ عليه إسماعيل باشا فيما بعد.
وبعد أنّ تولى إسماعيل باشا حكم مصر، أمرَ بالتوسع في تعمير المنطقة الممتدة من شاطئ النيل عند ثكنات الجيش إلى باب اللوق، وكلف كبير مهندسي مصر آنذاك، علي باشا مبارك، بتحويل تلك المنطقة إلى واجهة حضارية للعاصمة، فاختار 617 فدانًا للحي الجديد وكان بعضها مازال أراضي خربة تحتوي على كُثبان من الأتربة وبرك للمياه، فخططها وأنشأ فيها الشوارع والحارات على خطوط مستقيمة، أغلبها متقاطع على زوايا قائمة ودكت شوارعها وحاراتها بالحجر «الدقشوم». ونظمت على جوانبها الأرصفة. ومُدّت في أرضها أنابيب المياه، وأقيمت فيها أعمدة المصابيح لإنارتها، فأصبحت كمّا قال، علي باشا مبارك: «من أبهج أخطاط القاهرة وأعمرها، وسكنها الأمراء والأعيان». وبعد الإنتهاء من رصف الشوارع والأرصفة، قامَ الخديوي إسماعيل بمنح الأرض للذين سوف يشيّدون المباني بشرط ألا تقل تكلفة العمارة عن 2000 جنية، بهدف بناء عمارات كبيرة عصرية. وهكذا ظهرت شوارع مثل: «قصر النيل، سليمان باشا، القصر العيني»، وبلغَ طول شارع قصر النيل 1250 مترًا، وشارع الفلكي 1260 مترًا، وشارع عماد الدين 1720 مترًا.
واستكمالاً لخطة التعمير، كلفَ الخديوي إسماعيل شركة «فيف ليل» الفرنسيّة، بإنشاء كوبري معدنيّ لتسهيل الوصول إلى الجزيرة الواقعة على الضفة اليُسرى للنيل، وتم إنشاء الكوبري عام 1872، وفي نفس العام أنشأت شركة إنجليزية كوبري «البحر الأعمى»، الجلاء حاليًا - وذلك لأن الفرع الغربي للنيل لم يكن موجودًا على الدوام، بل كان يمتلئ أثناء الفيضان ثم يجف مرة أخرى- ليوصل الجزيرة بالجيزة ليُكمل هذا المحور المروري الهام. ومن الجانب العسكري، تحولَت ثكنات قصر النيل إلى مقر رسمي لقوات الجيش المصري، ولعبت دورًا سياسيًا خلال أحداث الثورة العُرابية. خصوصًا أنها كانت على مرمى حجر من الحُكم الجديد في قصر عابدين، وغير بعيد عن شارع قصر النيل بكل ما فيه من مبانٍ كانت مقرًا للنِظارات، أي الوزارت، بل والمجلس النيابي منذ أن كان اسمه مجلس شورى القوانين، ولأن استيلاء أي قوات أجنبية على قلعة المدينة يعتبر استيلاء على البلد كلها، فإن قوات الإحتلال البريطاني عندما وصلت إلى القاهرة بادرت إلى احتلال ثكنات الجيش المصري في قصر النيل كرمز لإحتلالهم للقاهرة. وظلّت ثكنات قصر النيل تحت الاحتلال البريطاني، حتى عام 1947، عندما انسحبت منها القوات البريطانية لأخر مرة ووقف الملك فاروق يرفع علم مصر فوق ثكنات قصر النيل. ومع حلول عام 1882، تم رصف شارع قصر النيل بالحجر، ثُم بالأسفلت بعد أنّ أصبح أشهر شارع تُجاري في القاهرة؛ يبدأ من عند المتحف المصري ليصل إلى ميدان سليمان باشا ثُم يواصل طريقه إلى تقاطُعه مع شارع إبراهيم «الجمهورية»الآن.
وشهدَ هذا الشارع زحفًا من كبار التجار فوجدنا فيه محلات اليهود مثل؛ شالون وصيدناوي، داود، عدس وبنزيون. كمّا وجدنا محال الصالون الأخضر وبيع المصنوعات المصرية، وعمارة «الإيموبيليا» أشهر عمارات العاصمة، ومقر البنك المركزي والبنك الأهلي.
كوبري «قصر النيل».. من كوبري «الخديوي إسماعيل» إلى كوبري «جمال عبد الناصر»
ويرجع الفضل فى بناء الكوبرى إلى الخديوي إسماعيل، الذي شهد عصره تقدمًا معماريًا لا مثيل له بين أبناء أسرته، حيث سعى لتحويل قاهرة المعز إلى قطعة من أوروبا، فشرع فى إصدار أوامره لتشييد عدة معالم معمارية مميزة في أرجاء القاهرة كان على رأسها كوبري قصر النيل. بدأت قصة إنشاء كوبري قصر النيل مع تفكير الخديوي إسماعيل في إنشاء جسر يربط بين ميدان التحرير، والذى كان معروفاً وقتها باسم "ميدان الإسماعيلية"، والضفة الغربية من النيل بمنطقة الجزيرة اقتداءً بمدن أوروبا التي تربط الجسور بين ضفافها، كان الناس ينتقلون فى هذه الفترة بين ضفتى النيل، باستخدام النقل النهرى، عبر المراكب الشراعية، التي تٌصف بجوار بعضها البعض وتمتد عليها ألواح من الخشب كى يسير الناس عليها، ما جعل من فكرة إنشاء الكوبرى وقتها فكرة عصرية متطورة. وبدأ العمل في إنشاء الكوبرى عام 1869 حينما أصدر الخديوي إسماعيل، الأمر العالي لتنفيذ البناء، وتم إسناد المشروع لشركة الفرنسية، و استغرق البناء حوالي 3 سنوات. وكان الكوبري مكونًا من 8 أجزاء، منها جزء متحرك من ناحية ميدان الإسماعيلية لعبور المراكب والسفن يتم فتحه يدويًا من خلال تروس، علاوة على جزئين نهائيين و5 أجزاء متوسطة ، وتم تأسيس دعائم الكوبري من الدبش المحاط بطبقة من الحجر الجيرى الصلب، كما تم تنفيذ الأساسات بطريقة الهواء المضغوط، وصممت فتحات الكوبرى كي يمكنها حمل 40 طنًا والسماح بعبور عربات متتابعة أو تحمل أوزان ضخمة موزعة على جسم الكوبرى.
أما تاريخ تماثيل أسود قصر النيل، فيعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وقد أبدعها المثال الفرنسى الشهير هنرى  جاكمار، بطلب خاص من الخديوي إسماعيل، واشتهر الخديوي منذ ذلك الوقت بـ"أبو السباع". صُنعت تماثيل أسود قصر النيل في الأصل لكي توضع على بوابتي حديقة حيوان الجيزة، لكن حين وصلت التماثيل الأربعة إلى القاهرة كان الخديوي إسماعيل قد خلع وتولى ابنه الخديوي توفيق، وكانت تُجري في ذلك الوقت عملية تجميل كوبري الخديوي إسماعيل ورأى الخديو توفيق أن الكوبرى يحتاج لمظهر يليق بهيبة اسم والده، فتم وضع أسدين على كل مدخل.
ونصَ المرسوم الذي نشرتهُ «الوقائع المصرية»، يوم 27 فبراير 1872، بعد 17 يومًا من افتتاح الكوبري للمرور على تحصيل رسوم عبور المارة وهو مرسوم أصدرهُ رئيس المجلس الخصوصي إلى محافظ القاهرة، حيثُ فرضَ على «الجمل المُحمّل» قرشين رسم عبور. والفارغ قرشًا واحدًا، بينما فُرضَ على الخيول والبغال المُحمّلة قرشين، والفارغة قرشًا واحدًا، وعربة الكارو الحجاري الحماري المُحمّلة قرشًا و 20 بارة والفارغة 20 بارة. وكُل واحدة من الغنم أو الماعز 10 بارات، أما الرجال والنساء «فارغين وشايلين»، فيدفع كُل فرد 100 بارة. مع إعفاء الأطفال حتى 6 سنوات من دفع هذه الرسوم.
وجاءَ في الإعلان ضمّ أشياء غريبة، ربمّا كانت موجودة في هذا الزمان- مُنذ 123 عامًا- إذ تضمنّت الرسوم فرض رسم عبور على النعام الصغير والكبير، والغزال والكلاب والخنازير، ويُسدّد على كُلٍ منها 10 فضه.
وفي عام 1950، هُدِمَت الثكنات وحل محلها مبنى جامعة الدول العربية، وفندق النيل ريتز كارلتون "النيل هيلتون سابقًا". يتميز الشارع بالثراء في الزخارف الفنية والمعمارية التي تحاكي الطراز المعماري الذي ظهر في أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فتم رصف الطريق وشيدت على جانبيه المباني التي بنيت على الطراز "النيو باروك".
ثم تطور الشارع وأصبح من أشهر الشوارع التجارية. ومن أشهر العمارات التي عُرِفَ بها الشارع عمارة الإيموبيليا، وعمارةُ وهبة، وسينما قصر النيل.
شُيدت عمارة الايموبيليا عام 1940 حيث صممها مهندسون أجانب، وتقع عند نقطة التقاء شارعي شريف وقصر النيل، مالك العمارة هو رجل الأعمال المصري الشهير أحمد عبود باشا، ويبلغ عدد شقق العمارة 370 شقة وبها 27 مصعداً. وكانت محل السكن المفضل لنجوم وفنانين وأدباء وسياسيين مصر في حقبة الخمسينيات والستينيات ومنهم نجيب الريحاني ومحمد فوزي وأنور وجدي وليلى مراد ، والفنان أحمد سالم، والمنتجة آسيا داغر، بالإضافة إلى عدد من السياسيين مثل فؤاد سراج الدين أحد قيادات حزب الوفد وإسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء الأسبق، والدكتور عزيز صدقي رئيس وزراء مصر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات. وتتميز بوجود نظام تدفئة خاص بها استمر لسنوات، حيث يتم وضع النفايات لكل شقة في مواسير ضخمة تصل إلى أسفل العمارة، وفيها يتم حرقها ومن خلال هذا الحرق يتم تزويد كافة الشقق بوسائل التدفئة عبر مجموعة من المواسير الضخمة التي ما زالت متواجدة حتى الآن.
كانت الشوارع على جانبي قصر النيل تشكل الحي المالي في القاهرة عند تقاطع شارع شريف مع مبنى البنك الأهلي المصري. تم تأثيث ممرات شارع قصر النيل بأعمدة مصابيح على طراز القرن التاسع عشر، جنباً إلى جنب مع الزهور والمساحات الخضراء وأشجار النخيل.
عندما انتهى عهد حديقة الأزبكية، قررت أم كلثوم أن تبدأ عهدا جديدا، فى "قصر النيل"، ربما لم تكن "ثومة" تعرف وقتها - بداية ستينيات القرن العشرين- أن "مسرح سينما قصر النيل" سيكون عهدها الأخير، وبعد حوالى عشر سنوات من لقاء السحاب مع ألحان عبد الوهاب وغنائها "إنت عمرى" ، وقف الجمهور ينتظر دخول حفلتها يوم غنت "القلب يعشق كل جميل" هذه الأغنية التي تحدثت عن الحب الإلهى وزيارة الكعبة، وكانت تلك المرة الأخيرة التي يجلجل الصوت الكلثومي هنا، فى شارع قصر النيل.
سهام يوسف كمال