الواحة

خيامية وفوانيس من "تحت الرَبع"

إن الشوارع ليست مجرد مكان أو اسم يطلق عليها ولكنها ذكريات وتفاصيل وتاريخ من عُمر الناس ، في شوارعنا ترى آثار ومبانى وأسواق و لكل منها طرازها المميز تتفاعل معها وتنجذب إلى الحرف والمهن والصناعات اليدوية الموجودة فيها والحديث مع أربابها .. ومن أشهر هذه الأسواق "سوق تحت الرَبع" الذى لم يبقى منه إلا اسمه ويحتار الكثير فى سبب الأسم وأين هذا الرَبع وماهو تاريخه العريق الذى يرتبط معنا بنفحات رمضان والفانوس والخيامية وليالي الشرق المزدهرة.
تاريخ إنشاء سوق "تحت الرَبع" يرتبط بتاريخ إنشاء مدينة القاهرة على يد جوهر الصقلي عام 358هـ عندما جعل سكن عساكر البربر والسودان على يمين الخارج من باب زويلة وعرف هذا المكان باسم حارة السودان وكانت تنتهى عند الخليج المصرى بباب الخلق .
استمر اسم حارة السودان يطلق على الشارع حتى فترة حكم الملك الظاهر بيبرس الذى قام بتطوير الشارع وتقسيم المساحة المحيطة به و أنشأ ربعاً وأسفله سوق كبير عام 1263م كمجمع سكنى و تجاري ضخم ، على أن يستخدم دخلها للإنفاق على بناء مدرسته المشهورة في شارع "بين القصرين". وبنى هذا المجمع السكني التجاري وكان يسمى "الرُبع" بضم الواو ، ولكن حرّفته العامة بعد ذلك إلى "الرَبع" بفتح الراء.
بُنيت السوق خارج السور الجنوبي للقاهرة الفاطمية، وقد سميت "الربع الظاهري" نسبة لصاحبها السلطان الظاهر بيبرس. وكان اختيار المكان خارج سور زويلة لإقامة السوق يرجع إلى أنه تكثر فيه حركة تدفق الغرباء والوافدين إلى العاصمة. وبعد 160 عاماً من انشائه اندثر الربع الظاهري في حريق مروع في عصر السلطان محمد بن قلاوون ورغم ذلك استمرت شهرة تحت الربع كسوق تجارية ، ويقول المقريزى فى خططه أن هذا الربع احترق من ضمن ما احترق فى سنة 721 وكان يشتمل على مائة وعشرين بيتا وتحته قيسارية (بوابة صغيرة) تعرف بقيسارية الفقراء وكان الناس تدخل وتخرج وتمر للقاهرة الفاطمية من تحت قيسارية هذا الربع و لهذا عرف بخط تحت الربع .
يذكر عبدالرحمن زكي في "موسوعة القاهرة في ألف عام" أن الرَبع لم يكن له سوى مدخل واحد للجميع ويصعد إلى الطابق العلوي بواسطة سلم يوصل إلى دهليز طويل تطل عليه المساكن ، ولا تؤجر هذه المساكن المؤثثة ولا يسمح للأغراب باستئجار مسكن من الربع ، ولكن يسمح له بذلك من كان منهم مع أسرته .
شارع تحت الربع يبدأ بمديرية أمن القاهرة وينتهي عند باب زويلة وقبل تطوير الشارع قديما كانت تنتشر به الخنادق والممرات الصغيرة التي تصل بينه وبين الحارات المجاورة ، تغير اسم الشارع أكثر من مرة فمن حارة السودان إلى تحت الربع إلى باب الخلق ثم تحت الربع مرة أخرى وحاليا يسمى بشارع أحمد ماهر.
ابتداءً من منتصف شهر شعبان وحتى بداية شهر رمضان يعج الشارع بالآلاف المقبلين على شراء فوانيس رمضان التقليدية الأصيلة التي لاتزال تحمل عبق الماضي والأصالة وارتبط شارع تحت الربع في أذهان الكثيرين بأنه مخصص لصناعة وتجارة فوانيس رمضان ويعتقد الكثيرون بأنه تخصص في هذه المهنة منذ قدوم الخليفة الفاطمي المعز لدين الله. أما التجارة الأصيلة والقديمة التي عرف بها أن شارع تحت الربع قديما فهى سوقا للنحاسين وسوقا لصناعة الصفيح ولاتزال موجودة حتى الآن وكذلك اشتهر بأنه سوق لتجارة المكسرات واشتهر أيضا بصناعة الأخشاب. تغيرت المعالم المعمارية للشارع بفعل الزمن بإنشاء المساكن الحديثة مع توسعة الشارع وتطويله حيث لم يكن يزيد طوله على 115 مترا. أيضا كانت توجد ورش للدباغة، وأغلب هذه الأسواق كانت قد ظهرت في العصر المملوكي وكانت تثير إعجاب التجار الأجانب بسبب أنشطتها وثرائها.
يعد الشارع منطقة تراث ثقافي حيث يضم عدداً من الآثار الإسلامية وأهمها باب زويلة وهو من أشهر أبواب القاهرة الفاطمية الباقية حتى الآن وأكثرها جمالا وصلابة على المستوى المعمارى ويعرف على المستوى الشعبي باسم بوابة المتولى ، وهو اسم احتار المؤرخون فى أصوله فمنهم من أرجعه إلى أن والي القاهرة كان يجلس على باب زويلة للتعرف على أحوال وشكاوى رعيته. ومنهم من أرجعه إلى اعتقاد أهالى القاهرة بأن قطب الصوفية المتولي شؤون مصر حسب تقسيم درجات الصوفية الأربعة كان يتردد على باب زويلة لتلبية حاجاتهم .. ودللوا على ذلك بأن عامة أهالي القاهرة كانوا ينزعون خرقة من ملابس صاحب الحاجة سواء كانت شفاء من المرض أو زيادة في الرزق أو رفع ظلم الحكام ، ويعلقونها بمسامير على اعتبار أن القطب حينما يزور الباب سيقضي حاجة صاحب الأثر أو الخرقة. أصول المبنى الحالي لباب زويلة ترجع إلى أمير الجيوش بدر الجمالي وزير المستنصر بالله الفاطمي ، ففى عام 484هـ أعاد بناءه وتعليته ولكى يؤمنه جيدا من أى هجوم محتمل لأعداء الدولة الفاطمية ، شيد فوقه زلاقة كبيرة من حجارة الصوان بحيث إذا هجمت جيوش الأعداء على القاهرة لاتثبت قوائم الخيول على الصوان..وقد ظلت هذه الزلاقة باقية بباب زويلة حتى هدمها السلطان الكامل نصر الدين محمد بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب وقيل أن سبب ذلك أنه مر عليها فاختل فرسة وزلف فسقط من فوقه على الأرض أما حاشيته وبعض رعاياه ، ولكي يواري خجله من سقوطه أمام الناس صب جام غضبه على أحجار الزلاقة وأمر بهدمها فهدمت فى الحال. بالإضافة إلى مسجد فاطمة الشقراء الذى بناه رشيد الدين البهائي سنة 873هـ ( 1468 م ) في أيام حكم السلطان قايتباي وجددته السيدة فاطمة الشقراء في العصر العثماني والجامع يعرف أيضا باسم "جامع المرأة" كما عرف قديما "بجامع المقشات" ومسجد سيف الدين الاسحاقي الظاهري الذي بناه عام 885هـ - 1480م ، وزاوية فرج بن برقوق التي كانت مسجدا كبيرا وتضم مدرسة ومستشفى لم يبقى منها إلا هذه الزاوية وتم إنشاؤها عام 811هـ - 1408م.
إن متعة التجول فى شارع "تحت الرَبع" والسير وسط ضفائر من الخيامية وروائح البخور والعطارة والفوانيس وزجاجها الملون تأخذك إلى عالم ألف ليلة وليلة الساحر تشعر معه بأنك وجدت مصباح علاء الدين فى إحدى حوارية وحلق بك إلى السماء ووهبك براحا وهدوء في النفس.
سهام يوسف كمال