الواحة

كده ....... رضا

فى ستينيات القرن الماضى كانت سمة الناس فى تلك الفترة الهدوء والسكينة ، يسودها علاقات من الحب والود بين الأقارب والجيران ، وكانت الحياة الاجتماعية فيها روقان وراحة بال ، ولأننا من عادتنا وتقاليدنا أن نقف بجانب من يحتاج قبل ما يقول ، فقد امتلىء بيت الأستاذ عبد السلام فى قرية كفر الشيخ بمحافظة المنوفية بالأهل والجيران لمشاركته فى فرحته بلحظة ولادة مولوده ........ ووسط زحام الموجودين إذ بصوت بكاء ونويح زوجة عبد السلام يرج جدران المكان ، ليجرى عبد السلام مهرولاً ، فتقابله بعض نساء القرية وهم يحملن مولوده بنظرة حزن وشفقة على قلة بخت جارهم العزيز .... وتمالك عبد السلام نفسه سريعا ورضى بالمقسوم وحمل ابنه "رضا" وهو ينظر إليه ويدعوا قائلاً "يارب أنت الذي خلقته وأنت الكفيل به" ......... وهكذا بدأ ابنه منذ وجوده فى الدنيا بـ "صدمة" ضمور كامل فى ذراعيه ، ومنذ هذه اللحظة أصبح والد رضا هو حائط الصد والسند والعقل المفكر فى حياة أبنه ..... كيف سيٌكمل حياته ؟!!!! وأين وكيف سيتعلم ؟!!!! ..... وكيف يعالجه ويؤهله نفسياً حينما ينظر حوله فيدرك إنه مختلف عن الأخرين ...... وكيف ...........
وبالفطرة التى خلقنا الله بها بدأ "رضا" يحبو على مقعدته بديلاً عن استخدام ركبته ويديه ، وحينما اشتد عوده وأراد أن يقف كان يستند على أقرب حائط ليقف .... ومرت السنوات الأولى من طفولته وسط أسرته التى تحبه وترعاه ووالده الذى يعلمه دائماً بالبحث عن "البديل" لعضو هام وأساسى فى جسم الانسان وهو الذراعين وتطبيق مقولة "قادرون باختلاف " فى زمن فات عليه عشرات السنين ، وبهذا المنطق أيضاً علمه والده كيف يمسك القلم بأصباع قدمه ليكتب بعد أن وصل سنه دخول المدارس ....... ولكن كانت كلمة "الرفض" هى العنوان الرئيسى وبالإجماع من جميع المدراس التى تقدم لها عبد السلام ووسط احباطه وشعوره بالهزيمة ولكن دون يأس ، ذهب عبد السلام إلى مكتب وكيل وزارة التعليم وقال له: "ابني بدون تعليم كأنه ميت" ، ورَفضت العديد من المدارس قبوله نظراً لإعاقته ، وأبلغه أنه سيذهب إلى الرئيس عبد الناصر ، لأن حياة ابنى فى تعليمه ..... ونجح عبد السلام بإلحاق رضا بالمدرسة الأبتدائية ، وبدى على رضا مع خطواته التعليمية الأولى الذكاء والقدرة على التحصيل والتعلم بسرعة ، وعندما وصل لـ 3 أبتدائى غير والده طريقته فى الكتابة من وضع القلم بين أصابع قدمه إلى الكتابة والقلم بين أسنانه ، لتناسب تكملة مشواره التعليمى وقال له عليك أن تكتب باسنانك وأحرص أن يكون خطك جميلاً ، حتى أصبح بالفعل بعد فترة من أحسن الخطوط في المدرسة .
ولم يترك عبد السلام أبنه عرضة للتنمر والشعور بأن شىء هام ينقصه فى شكله كأنسان ... وكان دائماً يقول له تعامل فى حياتك بأنك لست مختلفاً عن الأخرين .... وفى أحدى المناسبات كان رضا وأهله فى فرح جار لهم فى القرية ، وإذ برجل من أقاربه يحمله وبدأ يأكله بيديه ..... وعندما رأى والده ذلك عنف أبنه بشده وقال له : أنت لست أقل من غيرك لا ينقصك شيء ولا تسمح لأحد أن يعطف عليك ولا أن يقلل من قدرك .... وأصبحت مقولة والده ألا يسمح لأحد أن يقلل من شأنه هى دستوره مدى الحياة ..............
ومرت السنوات وانهى رضا عبد السلام المرحلة الثانوية والتحق بكلية الحقوق وبنفس شغف وحب العلم والإطلاع على المجالات المختلفة وخاصة قراءته الكثيرة في علم النفس ، التى ساعدته في فهم نفسه والتغلب على التحديات الشخصية وتحديات المجتمع ومعرفة نقاط الضعف والقوة.... إلى أن تخرج من الجامعة والتحق للعمل فى مجال المحاماة ولكن لم يجد نفسه فيها ، ولا أرضت طموحاته فتركها غير نادم .
وبعد فترة قصيرة وبالصدفة وكأنه اختبار القدر له تعرف على المرحوم الكاتب الصحفى عبد الوهاب مطاوع وحكى له حلمه بأن يصبح مذيعاً بالإذاعة فوجهه لمقابلة الإذاعى الكبيرالاستاذ فهمى عمروكان وقتها رئيس لجنة اختيار المذيعين، فى ذلك الوقت الذى قال له وقتها "أنت جاى تشتغل إيه " وفوجىء فى النهاية إنه تم ترشيحه للعمل أخصائى متابعة برامج محليات وتكرر تقدمه للعمل مذيعاً فى إذاعة القرآن الكريم عدة مرات ........ ولكن فُتح له باب أخر... ونجح بالإلتحاق كمذيع في إذاعة وسط الدلتا واستمر عمله مذيعَ ربطٍ طوال هذه السنوات إلى أن تقابل بالإذاعى حلمى البلك رئيس لجنة اختبار المذيعين ورئيس شبكة صوت العرب فى ذلك الوقت، ودخل عليه المكتب وقال له "هقولك على حاجة وفتح الباب وأغلقه.. ثم خلع الجاكت ثم أرتداه مرة أخرى بسهوله ويُسر... وأخيراً مسك القلم بفمه وقال له اعتبره مايك وامتحنونى"، وبالفعل أجرى له اختبارا واجتازه بنجاح .
وبدأ رضا عبد السلام مذيعاً فى إذاعة القرآن الكريم والتى لها عشاق بالملايين ... بصوته العذب الذى يأخذ العقل والقلب معاً ورشاقة أسلوبه مع ثقافة وحضور أمام الميكرفون .... و أمتلك رضا عبد السلام ميزتين مهمتين ، أولهما أجادة التعامل الفنى والتقنى مع أجهزة استوديوهات البث خلال فترة عمله بإذاعة وسط الدلتا ، أما الميزة الثانية هى القدرة على التفكير والإبداع .
وكان الرفض هو العنوان الثانى فى حياة رضا عبد السلام عندما أراد أن يتزوج ممن اختارها قلبه ولكن صدمة رفض والدها لم تجعله ييأس ، بل ظل يلح فى طلبه إلى أن استطاع أن يقنع والدها بالمنطق والعقل وتزوج رضا وعاش حياة اسرية هادئة سعيدة وكانت زوجته خير عون وسند له فى الحياة وأنجبا ولدًا وبنتاً هم خريجى كلية الطب والأعلام .
واستمرت نجاحات رضا عبد السلام فى العمل 33 عاماً ، اشتهر خلالها كمذيع راديو وصاحب نبرة صوت مميزة لدى الملايين ويقدمها دائمًا في بداية الفقرات الإذاعية أكسبته شهرة واسعة لدى مستمعي إذاعة القرآن الكريم ، وقدم العديد من البرامج الإذاعية الشهيرة: "قطوف من السيرة، مساجد لها تاريخ، وسيرة ومسيرة"
، وكمؤلف صدرت له 4 كتب آخرها "نقش على الحجر"........... واستيقظت بلادنا يوم الأربعاء 18 أغسطس 2021 على نقلة حضارية جديدة في تاريخ الإذاعة، وهى تعيين أول رئيس لإذاعة القرآن الكريم من ذوي الهمم فى "الجمهورية الجديدة" بعد مسيرة عمل حافلة على مدار 33 عاما .
وهذه المسيرة المليئة بالنجاح حققها عبد السلام متحديا ظروفه الخاصة، حيث لم تمنعه إعاقته منذ الصغر من أن يصبح أحد أهم وأشهر مذيعى شبكة إذاعة القرآن الكريم، وكما أكد رضا عبد السلام فى أحد حوارته بأنه رمز لجمهورية جديدة نعيشها فى ظل دعم الرئيس عبد الفتاح السيسى، رئيس الجمهورية، ليس لأصحاب الهمم ومتحدى الإعاقة فقط، وإنما لكل إنسان يخلص فى عمله، ، ولذلك أتمنى أن يكون هناك وجود وانتشار أكبر لذوى الهمم فى مختلف المجالات، فالدنيا كلها تتحدث الآن عنى، وأصبحت رمزا لأكثر من 13 مليون مصرى من ذوى الإعاقة يحلمون بالتعامل معهم مثلما تم التعامل معى ...........
وبعرضنا لمشوار حياة المذيع اللامع رضا عبد السلام ، لنأخذه مثل أعلى من الصعوبات والتحديات التى واجهها والنجاحات التى حققها ، وأن كلمة "مستحيل" علينا أن نشطبها من قاموسنا ، وأن العيش على تحقيق الحلم والأمل هو الفارق بين الموت والحياة ، فلا يوجد ما هو صعب فى الدنيا ، طالما تملك أرادة النجاح عليك أن تمحو كلمة الفشل من حياتك .......................
الهام المليجى