الواحة

"ليلى"

"ليلى"
حاولت أن أسرع من خطواتى وأنا أبحث عن غرفة "24" بالدور الثامن بالقصر العينى الفرنساوى ،ودائما ما أتردد عند أى طريق أسلكه وذلك لوجود مداخل ومخارج كثيرة . . وينتهى الأمر أن أسأل أين غرفة 24 . . . وأول ما وصلت للغرفة أعتذرت عن تأخرى وسلمت على طنط "ليلى" وأبتسمت وقلت لها " أيه الأخبار؟ . . ولم أنتظر الرد واكملت ماشاء الله الحمد لله . . . النهاردة أحسن " ولكن لم تهتم "ليلى بما قلته ولكننى أكملت الحوار مع ابنتها" سلمى" التى تنتظرنى حيث سأقضى الليلة مرافقة لوالدتها وقلت " ورينى الأدوية فين ومواعيدها " فردت عليا "التمريض هنا عارف المواعيد كويس وعارفين شنطة الأدوية جنب ماما ، بس انت عليكى أهم حاجة . . أوعى تنامى عشان ماما بتتحرك أحيانا دون وعى وتقوم بشد الـ "رايل" وانت عارفه أن التمريض يعطيها أكلها عن طريقه . . وعشان يتركب تانى لازم تجرح البلعوم والمرىء . . فرديت عليها " من الناحية دي اطمنى ، أنا شربت كوب كبير من القهوه يسهرنى يومين بحالهم " ونظرت سلمى إلى أمها لتودعها وقالت لها أنها ستغيب عنها الليله فقط والصبح بدرى هتكون عندها ، فنظرت ليلى وكأنها تقول "هتستبينى لوحدى ليه . . . خليكى معايا " وها هو الزمن يمر بنا إلى أن نصبح تحت رعاية من كنا نرعاهم ونسهر الليالى على راحتهم وأصبح الحال عند الكبر أن نرعى أباءنا وكأنهم أبناؤنا وهذا أقل القليل الذى نقدمه لهم ردا لأفضالهم علينا سنوات وسنوات من العطاء بلا حدود. . . . ولكن كان على سلمى أن تذهب لبيتها ولولساعات قليلة وهى التى لازمت أمها اسبوعين ، وأقتربت من سرير طنط ليلى ونظرت فى عينيها الحزينة"أن شاء الله هتبقى زى الفل بس حاولى وقاومى المرض وخلى عندك أرادة وأكملت كلامى . . . ولكن وكأنها ثرثرة لا فائدة منها . . فلم تهتم أو تسمع وكأنها تقول انت كاذبة . . . فأنا فى نهاية رحلتى وكلها أيام أو ساعات وتكون النهاية . . . وقد بدأ شعور ليلى بالمرض عندما أحست بوجود ثقل ووجع "بثديها" وأكتشفت بعد ظهور نتيجة الأشعة أن ورم قد أصاب ليلى ، وكان قرار الطبيب ياستئصال "الثدى" ، وقد حمدنا ربنا أن الأمور يمكن السيطرة عليها وبعد أن انتهت من العملية كان عليها بعد فترة نقاهة قصيرة ان تخضع لجلسات علاج كيماوى ، ولأن ليلى صاحبة جسم نحيل وطول عمرها تخاف على نفسها إلى الحد الذى تحرم نفسها من أكلات تحبها عشان السكر وأخرى عشان الضغط إلى درجة الخوف من تقبيل الأخرين خوفا من انتقال أى عدوى لها وظل فوبيا الخوف مسيطر عليها لم تستطع ان تستمتع بما تحبه طوال سنوات عديده . ومع أول جلسات العلاج الكيماوى كانت بداية لمتاعب أخرى ، فلم يحتمل جسمها النحيل ولم تتحمل روحها ومقاومتها وأرادتها وقد تسلل اليأس شيئا فشيئا إليها . . وبدأ يظهر عليها شحوب فى الوجه مع عدم القدرة على الوقوف إلى حدوث هبوط وإغماءات . . . ولكن الأطباء قد نبهوا أن هذه الأعراض عادية مع العلاج الكيماوى وعلينا الاستمرار فى الجلسات ، وبالفعل أخذت ليلى جلستها الثانية . . وازداد معها عدم القدرة على الوقوف نهائيا واشتد الصعف والوهن عليها مع رفض أى طعام يقدم إليها ، وكان عليها دخول المستشفى لإسعافها وبعد عمل التحاليل والأشعات اللازمة كانت المفاجأة المفجعة والأكثر آلما للجميع ، وهو أن مرض السرطان قد تمكن من المركز العصبى فى المخ وتوغل فيه وتشعب إلى أن أنتشر فى المخ . . كيف ومتى حدث هذا لا نعلم !!! فقد عملت مسح ذرى شامل بعد العملية واثبت خلو جسمها من الأورام يا الله ترقد ليلى امامى وهى لا تعلم ما بها والكل يتظاهر امامها بأن حالتها مجرد وهن وتعب وتخرج بعد كام يوم !!!! ياالله آيأتى يوم لا نعلم من أمرنا شيئا ؟!!!!! وها هى مستسلمه تماما للتمريض يفعل بها ما يشاء ، تبدى اعتراضها عند تناول الأدوية وتقول"كفاية شكشكة . . كفاية" وأحيانا تطلب أن تأكل "تفاح" لحبها له ، فترد الممرضة "يا مدام ليلى السوائل اللى بتاخديها فيها تفاح . . . انت عارفه مش ممكن تأكلى عن طريق الفم مسموح بسوائل فقط عن طريق الرايل . . . . . وبعد قليل امسكت بريموت التليفزيون وقمت بتعليه الصوت لتستطيع ليلى ان تسمع القرآن جيدا وبعد فترة قليلة قالت لى "عايزة انام على جنبى فقمت بمساعدتها على ذلك . . ولم تمضى دقائق قليله وقالت ،انا مش مرتاحة كده أعدلينى تانى وهكذا لم تذق ليلى الراحة طوال وجودها فى المستشفى ، واقتربت منها وقلت لها انت عايزة ترجعى البيت ادعى طول الوقت . . . فقالت يارب أشفينى . . أشفينى يارب وما ان سمعت ذلك وقد دمعت عينى أحاول أن اداريها . . فأنا أعلم ما لا تعلمه ، ففى شدة المرض ونحن ننتظر النهاية يكون دعاءها بالشفاء فهاهى تدرك بعد فوات الأوان معنى الحياه ......... وحاولت أن أخرج من أحزانى وامسكت بريموت التليفزيون مرة أخرى لإشاهد دعاء الشيخ النقشبندى وهو ينشد رائعته "مولاى" ادعوك ياربى .. فاغفر ذلتى كرما .. واجعل شفيع دعائى .. حسن معتقدى .. وانظر لحالى .. فى خوف وفى طمع .. هل يرحم العبد بعد الله من احد .. مولاى انى ببابك .. قد بسطت يدى .. من لى الوذ به .. الاك ياسندى .. مولاى .. يا مولاى .. ليضفى روح الصفاء والنقاء . . . ليسموا بالمشاعر ويعطى هالة من الروحانية لنستمتع انا وليلى به ونكسر حالة الصمت والهدوء المميت . وتأملت ملامحها وأنا أرى كيف كانت مقبلة على الحياة . . . وقد توفى زوجها وهى فى الأربعينيات من عمرها وقيامها وحدها بدور الأم والأب معا وأكمال رسالتها مع أولادها "حسام وسلمى" وبعد تخرجهم من الجامعة قامت بمساعدتهم فى البحث عن وظيفة ، ثم شاركت ابنتها فى اختيار شريك حياتها وأسداء النصح والتوجيه دائما لكى لا تقع فى خطأ الاختيار . . . وظل ابنها حسام معها لسنوات ثم تزوج فى نفس عام خروجها على المعاش وكأن الحياة تعاندها . . . فحين تفرغت وتخلصت من كل أعبائها الوظيفية . . تجد نفسها وحيدة . . بلا أنيس ولا شريك . . سكون تام . . الساعات والأيام تمر طويلة ثقيلة . . تنتظر أن يدق الباب أو يرن جرس التليفون . . . . . ولكن هكذا هى سنة الحياة . . . حينما نتفرغ للحياة نجدها قد أدارت لنا ظهرها . . . وبزواج ابنها دخلت فى دائرة ضيقة مغلقة كلما مر الوقت والزمن تضيق الدائرة أكثر ، وأقتصر اهتمامها فى مشاهدة التليفزيون ببرامج "الطبخ" صباحا وبرامج "التوك شو" مساءا . . . وأصبح خروجها من المنزل للضرورة القصوى والميل للوحدة والعزلة والإكتفاء بمن يدق بابها وأصبحت أكثرحساسية و حياء . . وتكره أن تثقل على أحد . . . ترفض دعوات للخروج والتنزه ودائما تقول " أنا خلاص ياما عشت . . وياما شفت " ، لم تدرك ليلى أن الحياة مراحل نعيشها وعلينا أن نعيشها بحلوها ومرها حياتنا لم ولن تتوقف عند انتهاء رسالتنا نحو اولادنا فقد وهبنا الله الحياة وجزء من حياتنا هى تربية أولادنا وعلينا أن نكمل رحلاتنا ونسعد بها . . الموت سيأتى . . سيأتى لا محالة . . فعلينا أن نعيش كل الحياة وعادت ليلى إلى بيتها الذى تعشقه ، وتحققت امنياتها بأن تعود لبيتها . . وكلنا أمل بأن تتعافى وتتحسن حالتها تدريجيا . . . ولكن للأسف استسلمت ليلى للنهاية والتى أحبت أن تكون فى بيتها و الشاهد على سنوات عمرها والتي طبعت فى كل ركن من أركانه ذكرياتها . . . فها هو البيت بهوائه وجدرانه وأثاثه شاهدا على فراق صاحبة البيت . . . ولفظت ليلى أنفاسها الأخيرة . . . لتستريح الراحة الأبدية . . . تاركة ثلاثة وسبعون عاما وراءها و ذكرى عطرة عند الناس جميعا بأنها عاشت كالنسمة فى حياة الأخرين ولكن لم تسعد نفسها بنفسها !!!!!!! الهام المليجى إدارة الإعلام